لماذا الهجوم على السنة النبوية ؟ ومن يقف وراءه ؟
محمد إبراهيم مبروك
عندما
يكون السؤال: لماذا الهجوم على السُّنة النبوية ؟ فإن ذلك يعني أنني أقصد:
لماذا تصاعدت وتيرة هذا الهجوم تصاعداًً كبيراً في السنوات الأخيرة؟ لأن
الهجوم على السُّنة النبوية في ذاته هو أمر تقليدي للغاية ما دام الصراع
بين الحق والباطل قائماً إلى يوم القيامة.
فإذا كانت الإجابة
الحتمية على هذا السؤال هي: أن هذا التصاعد يحدث لأن هناك من يقوم بدعمه
واحتضانه، تأكَّد لدينا أن هذه الإجابة هي إجابة السؤال الثاني (من الذي
يقف وراءه؟) نفسها.
ومرادي من ذلك أن أُبرِز
بشكل واضح أن المسألة لا علاقة لها تماماً لا بالفكر ولا بحريته، ولا
بالبحث والاجتهاد ولا بأي شيء من ذلك؛ إنما هي سياسة فقط؛ سياسة دولة قررت
أن تقود ضد الإسلام حرباً فكرية شعواء مدججة بالمال والإعلام والتزييف
والتدليس والقهر السياسي.
الهجوم على الثوابت لتفكيك الأمة:
من خلال ما تقدَّم يتضح
خطأ التعامل مع قضية الهجوم على السُّنة النبوية في نطاق مستقل؛ وإنما يجب
التعامل معها في الإطار الشامل لهذه الحرب الفكرية، فبعيداً عن الدعاوى
المشبوهة للحوار مع الآخر التي تؤكد الأحداثُ المتتالية أن ما يُقصَد بها
هو التزامنا (طرفاً وحيداً) بهذا الحوار؛ بينما الطرف الآخر ممعن في قهرنا
(العسكري والسياسي) في كل مكان ما مكنته الظروف من ذلك، لا يتغير في هذا
سوى تعبيرات الوجوه ونفاق التصريحات.
فالهجوم على السُّنة
النبوية يأتي في إطار الهجوم على كل ثوابت الإسلام؛ هجوم على الشريعة
بالدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، وهجوم على أهل السُّنة والجماعة بمسمى
محاربة الوهابية والتطرف ودعم الصوفية، وهجوم على عقيدة الولاء والبراء
بدعوتي (التسامح والتقارب بين الأديان)، وهجوم على كل شيء له علاقة
بالإسلام الحقيقي، وفي المقابل طرح إسلام بديل بلا قواعد ولا ضوابط يسمى
الإسلام الليبرالي؛ يتوافق مع المضمون العَلماني الغربي ولا يحمل من
الإسلام نفسِه سوى الشعار، ومن ثَمَّ يتخلص الغرب الأمريكي من صراعه
الحضاري مع الإسلام بحسب تصور قادة الفكر لديه من أمثال ليونارد لويس
وفوكوياما وهينتنغتون.
الهجوم على السُّنة ذريعة للهجوم على القرآن:
بناءً على ما سبق فإن
الهجوم على السُّنة النبوية لا يقف عند حدود السُّنة النبوية فقط؛ وإنما
يستهدف القضاء على الإسلام بالكامل؛ لأنه يستهدف الهجوم على القرآن أيضاً
بشكل مباشر؛ لأن إسقاط السُّنة يعطي الفرصة لكل مغرض وحاقد على الإسلام أن
يفسر القرآن تبعاً لما يمليه عليه هواه؛ لأن السُّنة "هي التي تبيِّن
مجمله، وتقيد مطلقه وتخصص عامَّه... وقد يحتمل نص الكتاب أمرين فأكثر
فتُعيِّن السُّنة أحدهما"[1].
وها هو المتحدث باسم
القرآنيين المصريين (عصابة القرآنيين، أو الأحق: زاعمو القرآنية) المدعو
عثمان محمد علي ابن أخ زعيمهم أحمد صبحي منصور يؤكد ما نقول؛ حيث يذهب إلى
أنه بإسقاط السُّنة «أصبحت المحرمات والمسلَّمات والثوابت السابقة
المزعومة مادة ممكنة للبحث والاستنباط والتمحيص والمناقشة واستخراج
سوءاتها وسيئاتها وتعريتها وتعرية رجالها؛ لنتعلم من أخطائها، ولنفرق من
خلالها بين الإسلام والمسلمين وبين ما في القـرآن وما طبَّقـه المسلمون،
ولنتعلم أن نقف مع الحق ولو كان ذلك على حساب رجال كنا نعدهم من الصالحين
ظاهرياً مثل الصحابة والتابعين والفقهاء"[2]؛ فأين هذا الإيمان بالقرآن
لدى رجل يسخر من كل الثوابت والمحرمات والصحابة ؟
إن الأمر لا يعدو كذبة
مزعومة للتستر على الإلحاد والعمالة ومن ثَمَّ ليس غريباً أن يكون أحمد
صبحي منصور زعيم مدعي القرآنية أحد المشاركين الرئيسيين في مؤتمر أمريكي
حول (الكفار المسلمين). هكذا بكل صراحة؛ حيث نشرت وكالة الأنباء الأمريكية
خبراً جاء فيه: "إن حركة القرآنيين تعتزم تنظيم مؤتمر غير مسبوق هو الأول
في أمريكا (للكفار من المسلمين سابقاً) حسب ما بثته الوكالة، كما نشرت
مضمون بيان أصدرته يقول: (إن المؤتمر سيُعقَد في مدينة أتلانتا بولاية
جورجيا الأمريكية تحت اسم «الاحتفال بالكفر... التفكير الناقد من أجل
الإصلاح الإسلامي)، وجدير بالذكر أن مؤتمر «الاحتفال بالكفر» جاء في إطار
سلسلة متواصلة من المؤتمرات والفعاليات المناهضة للإسلام في الولايات
المتحدة، ومن أبرز تلك الفعاليات مؤتمر «انتقاد القرآن» الذي رعاه كبار
المحافظين وشارك فيه عدد من الليبراليين الجدد"[3].
من التخطيط المسبق إلى الهجوم المعلَن:
لأن كانت حركة منكري
السُّنة قد نشأت برعاية الاستعمار الإنجليزي من خلال فرقة (القاديانية)
وفرقة (أمة مسلمة) التي أسسها أحمد الدين أمر تسري بمدينة أمستر الهندية،
فقد كان من الطبيعي أن تحتضن الولايات المتحدة فرقة زاعمي القرآنية التي
هرب زعيمها أحمد صبحي منصور إليها بعد أن قضى ثلاث سنوات في السجون
المصرية، وكان أيضاً تحت الرعاية الأمريكية قبلها؛ من خلال مشاركته في
مركز ابن خلدون (المشبوه).
وفي عام 2004م أصدرت
مؤسسة راند تقريرها الشهير الذي أصدرت معه ملحقاً خاصاً سمي (حرب
الأحاديث) جاء فيه: "إن معظم الجهود الحالية لإصلاح الإسلام ترتكز حول
الخلاف على أحكام وممارسات محددة فيه هي محل انتقاد من غير المسلمين؛ خاصة
أنها لا تتناسب مع العصر الحديث"[4]، وتضيف الدراسة "أن القرآن بشكل عام
فوق النقد (وإن كان الأمر غير متفق عليه عالمياً)؛ إلا أنه هناك قضايا
كثيرة لم يتطرق إليها، أو أنه يشير إليها بغموض؛ ولذلك فإن الخلاف بين
التيارات الإسلامية يقوم على أساس رؤيتهم وتفسيرهم للحديث الشريف"[5].
ثم تنتقل الدراسة إلى
التشكيك بأهم مصادر الحديث الشريف مثل صحيح البخاري، والطعن في قدرة
البخاري نفسه على التوثق من صحة الأحاديث، وتَخلُص الدراسة بعد ذلك إلى
أنَّ "احتضانَ إسلامٍ أكثر ديمقراطية يتطلب العمل على ثلاثة خطوط متوازية
في ما يتعلق بموضوع الحديث الشريف:
أولاً:
يجب تثقيف العامة وتعليمهم بشكل أفضل كيفية فهم دينهم بأنفسهم دونما حاجة
إلى البقاء تحت رحمة سلطة دينية غير نزيهة وغير مثقفة نصَّبت نفسها
بنفسها.
ثانياً: حتى
يحدث ذلك يجب توفير مادة من الأحاديث المناقضة لما هو بين يدي العامة
لهؤلاء الذين يريدون مجتمعات أكثر تسامحاً ومساواة وديمقراطية وهم مقتنعون
أن هذه التغيرات التي يسعون إليها(غير إسلامية).
ثالثاً:
تشجيع الاجتهادات الفقهية التي يقوم بها بعض الفقهاء هنا وهناك، ممن لم
يحصروا أنفسهم بمدرسة فقهية معيَّنة، بل إنهم يمزجون القوانين الإسلامية
بالقوانين المدنية ليَخرُجوا باجتهادات جديدة... مثل هذه الجهود المتفرقة
يجب جمعها ووضعها بين يدي الفقهاء والمهتمين من الجمهور في العالم
الإسلامي"[6].
وما لبثت هذه المخططات
أن وجدت صداها العملي على أرض الواقع؛ ففي الأربعاء تشرين الأول من عام
2004م عقد مركز ابن خلدون مؤتمراً سياسياً ودينياً "يدعو إلى إصلاح الدين
الإسلامي بحضور سفارَتَي (أمريكا وإسرائيل) وهيئة المعونة الأمريكية"[7].
ولعل من المهم أن نذكر
بعض الأسماء التي حضرت هذا المؤتمر لندرك هل المسألة مسألة فكر واجتهاد،
أم مسألة إلحاد وعمالة؟ خصوصاً أن من بين هذه الأسماء أناساً ما زالوا
يموِّهون على الناس ارتباطهم بالإسلام لتماهيهم مع تيار إسلامي معيَّن
ويصدِّق بعض الناس ذلك. هذه الأسماء هي: سيد القمني، وجمال البنا، ومحمود
المراغي (قيادي في الحزب الناصري)، والصادق المهدي (رئيس حزب الأمة
السوداني)، ومحمد شحرور (كاتب سوري)، وصلاح الدين جورشي (كاتب تونسي)،
وإبراهيم عيسى. ومما هو لافت للنظر أن سعد الدين إبراهيم وجه الدعوة لأكثر
من أربعين شخصية عامة لكنها قابلت الدعوة بالتجاهل.
ويعلق الأستاذ سيد ياسين
(الرئيس السابق لمركز الدراسات الإستراتيجية بالأهرام) على المؤتمر
فيقول: غير أن أخطر توصية تبناها المؤتمر هي دعوته إلى تنقية التراث
الديني من الحديث النبوي الشريف، والاعتماد فقط على نصوص القرآن مرجعية
وحيدة، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين، وخلق مدرسة
اجتهاد جديدة في القرن الحالي.
ابتداء يمكننا القول: إن
هذه التوصيات تكاد تكون إعادة إنتاج (شكلاً ومضموناً) لتوصيات شيرلي
بيرنار في تقرير مؤسسة راند، وخصوصاً في ما يتعلق برأيها في السُّنة
وخطورة الأحاديث النبوية. ومعنى ذلك بكل بساطة: أن المؤتمر الذي نظَّمه
مركز ابن خلدون وموَّلته الولايات المتحدة، كان تطبيقاً عملياً لتوصيات
تقرير راند عن الإسلام المدني الديمقراطي. ومما يلفت النظر بشدة: أن هذا
المؤتمر لم يقنع بإصدار هذه التوصيات المثيرة للجدل الشديد، ولكنه خطا
خطوة أبعد لها دلالة مهمة؛ حين اعتبر بيان المؤتمر الحاضرين فيه نواةً
أساسيةً لحركة جديدة تسمى الإسلاميون الديمقراطيون في العالمين (العربي
والإسلامي)، وتجري دعوتهم بصفتهم الشخصية مرتين في العام لمتابعة التوصيات
الختامية للمؤتمر. ومعنى ذلك أن توصيات التقرير الذي نشرته مؤسسة راند
الأمريكية التي تمثل العقل الإستراتيجي الأمريكي لشيرلي بيرنار عام 2003م
جرى تطبيق توصياته باسم الإسلاميين الديمقراطيين كما أوصت بذلك شيرلي
بيرنار؛ حين دعت لتوحيد صفوف الإسلاميين الحداثيين، بل وبعض الإسلاميين
التقليدين، الذين يوافقون على تحديث الدين الإسلامي بناءً على الرؤية
الأمريكية[8].
جمال البنا (دينمو) العمل في مركز ابن خلدون:
إن مما يسترعي الانتباه
أن الأستاذ السيد ياسين يذكر في هذا المقال أن سعد الدين إبراهيم وصف جمال
البنا في المؤتمر بأنه (دينمو العمل)، وحق هذا؛ فقد وصفتُ الرجل أيضاً في
كتابي (الإسلام الليبرالي) بأنه (المهندس الفكري للمشروع الأمريكي في هدم
الإسلام).
وللرجل طبعاً أعماله
المتعددة في هذا الاتجاه، ولكن ما يهمنا بعد إدراكنا لعلاقته المباشرة
والعميقة بالمخطط الأمريكي هو إبراز جهوده المتواصلة في الهجوم على
السُّنة النبوية.
ففي أواخر التسعينيات
أصدر جمال البنا كتابه (السُّنة) الذي حشد فيه كل شبهات المنكرين للسُّنة
في القرن العشرين وبعد أن كرر هجومه في عشرات الكتب التي أصدرها بعد ذلك،
خصص كتاباً غاية في التطاول على الإسلام هو (تجريد البخاري ومسلم من
الأحاديث التي لا تلزم)، ولماذا لا يفعل هذا إذا كانت الدعاية الأمريكية
له جعلته من خلال القنوات الإعلامية التابعة لها (قنوات فضائية، صحف،
مواقع إنترنت) أشهرَ مفكر في الواقع المعاصر رغم أنف الجميع ؟
إن ما أريد الإشارة إليه
هنا هو فضح أكذوبة الهجوم على الأحاديث النبوية والدفاع عن القرآن؛
فهؤلاء لا علاقة لهم إلا بالرعاية الأمريكية في هجومهم على الإسلام؛ فكثير
من الأحاديث النبوية التي هاجمها جمال البنا في كتابه تتطابق تماماً مع
بعض آيات القرآن الكريم أو مع المعنى العام لها، مثال ذلك: إنكاره لحديث:
((من يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدَّم من ذنبه))[9] حيث
قارن هذا بقوله - تعالى -: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ
شَهْرٍ)[القدر: 3]، وحديث: "يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة،
ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاءً وسمعةً، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً
واحداً"[10].
ورفضُه هنا مبعثه أن
الحديث يذكر صفةً للذات الإلهية على حد قوله؛ مع أن الآية القرآنية تقول:
(يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ)[القلم: 42].
ومن هذا المعين الأمريكي
يدفع بهذا أو ذاك ليردد مقولات هذا التراث العفن نفسها في الهجوم على
السُّنة النبوية، وهو الذي جرى الرد عليه مراراًً وتكراراً من العلماء
والمفكرين.
التعويق الإعلامي للعلماء والمفكرين:
يحدث كل هذا الإفك ويجد
الترحيب والرعاية من كثير من القنوات الإعلامية بدعوتي (حرية الفكر،
والاجتهاد)؛ بينما يجري تعويق العلماء والمفكرين عن الرد عليهم: إما
بإعطاء دورهم لمن جرى استمالتهم من رجال منسوبين للدين، أو عدم إعطائهم
المساحة الكافية للرد والتشويش عليهم لإظهار هؤلاء المتطاولين على الإسلام
بصورة المنتصرين.
أمثلة وتجارب من الواقع:
وأذكر في هذا الصدد مثالين من الواقع:
الأول:
أن برنامجاً شهيراً في إحدى القنوات غير المشفرة استضاف مستشاراً سابقاً
اشتُهِر أمره في الطعن على صحيح البخاري وأعطته القناة فرصة كاملة في ذلك؛
ولكن الأخطر من هذا أنها استضافت للرد عليه أحد هؤلاء الذين جرت
استمالتهم من المنسوبين للدين فكان موقفه هو التأكيد على آراء ذلك الطاعن،
بل ربما المزايدة عليها أيضاً.
والثاني:
هو أن إحدى القنوات المسؤولة جداً اتصلت بكاتب هذه السطور لمناظرة أحد
أهم هؤلاء المشاهير في التطاول على السُّنة النبوية فلما أبلغوه بشخصي -
وكانت بيني وبينه مناظرة سابقة - رفض حضور المناظرة فأتوا بآخر من هؤلاء
أيضاً فرفض الحضور - مثل سابقه - عندما أبلغوه بشخصي، فجرى استبدالي بأحد
علماء الأزهر الشريف وإذا بهم يشوِّشون على الرجل ويضيقون عليه ويتوحدون
مع هذا المتهجم على السُّنة ضده؛ حتى أن الرجل اشتكى بعد المناظرة أنهم
"لم يعطوه الفرصة أن يقـول كلمتين على بعض".
إن مراد قولي مـن كل ما
سبق: هو التأكيد على أن التعـامل مع هـؤلاء المتطاولين على السُّنة لا يجب
أن يكون بشكل مستقل؛ وإنما في إطار مواجهة حرب فكرية شاملة تشنها
الولايات المتحدة الأمريكية على الإسلام، ولا من خلال اعتقاد أن مشكلة
هؤلاء هي الجهل بالإسلام كما يردد عادة كثير من المشايخ الذين يردُّون
عليهم؛ ولكن المشكلة في خطط مدبَّرة، وبرامج محدَّدة يعمل هؤلاء على
تنفيذها.
_____________________
[1] د. مصطفى السباعي، السُّنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص 344.
[2] موقع القرآنيين.
[3] شبكة محيط: 15 سبتمبر 2010م.
[4] الإسلام الديمقراطي المدني، موقع ترجمات الزيتونة ديسمبر 2004م.
[5] المرجع السابق.
[6] المرجع السابق.
[7] شبكة البصرة: الخميس 21 تشرين 2004م.
[8] المرجع السابق.
[9] أخرجه البخاري.
[10] أخرجه مسلم
محمد إبراهيم مبروك
عندما
يكون السؤال: لماذا الهجوم على السُّنة النبوية ؟ فإن ذلك يعني أنني أقصد:
لماذا تصاعدت وتيرة هذا الهجوم تصاعداًً كبيراً في السنوات الأخيرة؟ لأن
الهجوم على السُّنة النبوية في ذاته هو أمر تقليدي للغاية ما دام الصراع
بين الحق والباطل قائماً إلى يوم القيامة.
فإذا كانت الإجابة
الحتمية على هذا السؤال هي: أن هذا التصاعد يحدث لأن هناك من يقوم بدعمه
واحتضانه، تأكَّد لدينا أن هذه الإجابة هي إجابة السؤال الثاني (من الذي
يقف وراءه؟) نفسها.
ومرادي من ذلك أن أُبرِز
بشكل واضح أن المسألة لا علاقة لها تماماً لا بالفكر ولا بحريته، ولا
بالبحث والاجتهاد ولا بأي شيء من ذلك؛ إنما هي سياسة فقط؛ سياسة دولة قررت
أن تقود ضد الإسلام حرباً فكرية شعواء مدججة بالمال والإعلام والتزييف
والتدليس والقهر السياسي.
الهجوم على الثوابت لتفكيك الأمة:
من خلال ما تقدَّم يتضح
خطأ التعامل مع قضية الهجوم على السُّنة النبوية في نطاق مستقل؛ وإنما يجب
التعامل معها في الإطار الشامل لهذه الحرب الفكرية، فبعيداً عن الدعاوى
المشبوهة للحوار مع الآخر التي تؤكد الأحداثُ المتتالية أن ما يُقصَد بها
هو التزامنا (طرفاً وحيداً) بهذا الحوار؛ بينما الطرف الآخر ممعن في قهرنا
(العسكري والسياسي) في كل مكان ما مكنته الظروف من ذلك، لا يتغير في هذا
سوى تعبيرات الوجوه ونفاق التصريحات.
فالهجوم على السُّنة
النبوية يأتي في إطار الهجوم على كل ثوابت الإسلام؛ هجوم على الشريعة
بالدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، وهجوم على أهل السُّنة والجماعة بمسمى
محاربة الوهابية والتطرف ودعم الصوفية، وهجوم على عقيدة الولاء والبراء
بدعوتي (التسامح والتقارب بين الأديان)، وهجوم على كل شيء له علاقة
بالإسلام الحقيقي، وفي المقابل طرح إسلام بديل بلا قواعد ولا ضوابط يسمى
الإسلام الليبرالي؛ يتوافق مع المضمون العَلماني الغربي ولا يحمل من
الإسلام نفسِه سوى الشعار، ومن ثَمَّ يتخلص الغرب الأمريكي من صراعه
الحضاري مع الإسلام بحسب تصور قادة الفكر لديه من أمثال ليونارد لويس
وفوكوياما وهينتنغتون.
الهجوم على السُّنة ذريعة للهجوم على القرآن:
بناءً على ما سبق فإن
الهجوم على السُّنة النبوية لا يقف عند حدود السُّنة النبوية فقط؛ وإنما
يستهدف القضاء على الإسلام بالكامل؛ لأنه يستهدف الهجوم على القرآن أيضاً
بشكل مباشر؛ لأن إسقاط السُّنة يعطي الفرصة لكل مغرض وحاقد على الإسلام أن
يفسر القرآن تبعاً لما يمليه عليه هواه؛ لأن السُّنة "هي التي تبيِّن
مجمله، وتقيد مطلقه وتخصص عامَّه... وقد يحتمل نص الكتاب أمرين فأكثر
فتُعيِّن السُّنة أحدهما"[1].
وها هو المتحدث باسم
القرآنيين المصريين (عصابة القرآنيين، أو الأحق: زاعمو القرآنية) المدعو
عثمان محمد علي ابن أخ زعيمهم أحمد صبحي منصور يؤكد ما نقول؛ حيث يذهب إلى
أنه بإسقاط السُّنة «أصبحت المحرمات والمسلَّمات والثوابت السابقة
المزعومة مادة ممكنة للبحث والاستنباط والتمحيص والمناقشة واستخراج
سوءاتها وسيئاتها وتعريتها وتعرية رجالها؛ لنتعلم من أخطائها، ولنفرق من
خلالها بين الإسلام والمسلمين وبين ما في القـرآن وما طبَّقـه المسلمون،
ولنتعلم أن نقف مع الحق ولو كان ذلك على حساب رجال كنا نعدهم من الصالحين
ظاهرياً مثل الصحابة والتابعين والفقهاء"[2]؛ فأين هذا الإيمان بالقرآن
لدى رجل يسخر من كل الثوابت والمحرمات والصحابة ؟
إن الأمر لا يعدو كذبة
مزعومة للتستر على الإلحاد والعمالة ومن ثَمَّ ليس غريباً أن يكون أحمد
صبحي منصور زعيم مدعي القرآنية أحد المشاركين الرئيسيين في مؤتمر أمريكي
حول (الكفار المسلمين). هكذا بكل صراحة؛ حيث نشرت وكالة الأنباء الأمريكية
خبراً جاء فيه: "إن حركة القرآنيين تعتزم تنظيم مؤتمر غير مسبوق هو الأول
في أمريكا (للكفار من المسلمين سابقاً) حسب ما بثته الوكالة، كما نشرت
مضمون بيان أصدرته يقول: (إن المؤتمر سيُعقَد في مدينة أتلانتا بولاية
جورجيا الأمريكية تحت اسم «الاحتفال بالكفر... التفكير الناقد من أجل
الإصلاح الإسلامي)، وجدير بالذكر أن مؤتمر «الاحتفال بالكفر» جاء في إطار
سلسلة متواصلة من المؤتمرات والفعاليات المناهضة للإسلام في الولايات
المتحدة، ومن أبرز تلك الفعاليات مؤتمر «انتقاد القرآن» الذي رعاه كبار
المحافظين وشارك فيه عدد من الليبراليين الجدد"[3].
من التخطيط المسبق إلى الهجوم المعلَن:
لأن كانت حركة منكري
السُّنة قد نشأت برعاية الاستعمار الإنجليزي من خلال فرقة (القاديانية)
وفرقة (أمة مسلمة) التي أسسها أحمد الدين أمر تسري بمدينة أمستر الهندية،
فقد كان من الطبيعي أن تحتضن الولايات المتحدة فرقة زاعمي القرآنية التي
هرب زعيمها أحمد صبحي منصور إليها بعد أن قضى ثلاث سنوات في السجون
المصرية، وكان أيضاً تحت الرعاية الأمريكية قبلها؛ من خلال مشاركته في
مركز ابن خلدون (المشبوه).
وفي عام 2004م أصدرت
مؤسسة راند تقريرها الشهير الذي أصدرت معه ملحقاً خاصاً سمي (حرب
الأحاديث) جاء فيه: "إن معظم الجهود الحالية لإصلاح الإسلام ترتكز حول
الخلاف على أحكام وممارسات محددة فيه هي محل انتقاد من غير المسلمين؛ خاصة
أنها لا تتناسب مع العصر الحديث"[4]، وتضيف الدراسة "أن القرآن بشكل عام
فوق النقد (وإن كان الأمر غير متفق عليه عالمياً)؛ إلا أنه هناك قضايا
كثيرة لم يتطرق إليها، أو أنه يشير إليها بغموض؛ ولذلك فإن الخلاف بين
التيارات الإسلامية يقوم على أساس رؤيتهم وتفسيرهم للحديث الشريف"[5].
ثم تنتقل الدراسة إلى
التشكيك بأهم مصادر الحديث الشريف مثل صحيح البخاري، والطعن في قدرة
البخاري نفسه على التوثق من صحة الأحاديث، وتَخلُص الدراسة بعد ذلك إلى
أنَّ "احتضانَ إسلامٍ أكثر ديمقراطية يتطلب العمل على ثلاثة خطوط متوازية
في ما يتعلق بموضوع الحديث الشريف:
أولاً:
يجب تثقيف العامة وتعليمهم بشكل أفضل كيفية فهم دينهم بأنفسهم دونما حاجة
إلى البقاء تحت رحمة سلطة دينية غير نزيهة وغير مثقفة نصَّبت نفسها
بنفسها.
ثانياً: حتى
يحدث ذلك يجب توفير مادة من الأحاديث المناقضة لما هو بين يدي العامة
لهؤلاء الذين يريدون مجتمعات أكثر تسامحاً ومساواة وديمقراطية وهم مقتنعون
أن هذه التغيرات التي يسعون إليها(غير إسلامية).
ثالثاً:
تشجيع الاجتهادات الفقهية التي يقوم بها بعض الفقهاء هنا وهناك، ممن لم
يحصروا أنفسهم بمدرسة فقهية معيَّنة، بل إنهم يمزجون القوانين الإسلامية
بالقوانين المدنية ليَخرُجوا باجتهادات جديدة... مثل هذه الجهود المتفرقة
يجب جمعها ووضعها بين يدي الفقهاء والمهتمين من الجمهور في العالم
الإسلامي"[6].
وما لبثت هذه المخططات
أن وجدت صداها العملي على أرض الواقع؛ ففي الأربعاء تشرين الأول من عام
2004م عقد مركز ابن خلدون مؤتمراً سياسياً ودينياً "يدعو إلى إصلاح الدين
الإسلامي بحضور سفارَتَي (أمريكا وإسرائيل) وهيئة المعونة الأمريكية"[7].
ولعل من المهم أن نذكر
بعض الأسماء التي حضرت هذا المؤتمر لندرك هل المسألة مسألة فكر واجتهاد،
أم مسألة إلحاد وعمالة؟ خصوصاً أن من بين هذه الأسماء أناساً ما زالوا
يموِّهون على الناس ارتباطهم بالإسلام لتماهيهم مع تيار إسلامي معيَّن
ويصدِّق بعض الناس ذلك. هذه الأسماء هي: سيد القمني، وجمال البنا، ومحمود
المراغي (قيادي في الحزب الناصري)، والصادق المهدي (رئيس حزب الأمة
السوداني)، ومحمد شحرور (كاتب سوري)، وصلاح الدين جورشي (كاتب تونسي)،
وإبراهيم عيسى. ومما هو لافت للنظر أن سعد الدين إبراهيم وجه الدعوة لأكثر
من أربعين شخصية عامة لكنها قابلت الدعوة بالتجاهل.
ويعلق الأستاذ سيد ياسين
(الرئيس السابق لمركز الدراسات الإستراتيجية بالأهرام) على المؤتمر
فيقول: غير أن أخطر توصية تبناها المؤتمر هي دعوته إلى تنقية التراث
الديني من الحديث النبوي الشريف، والاعتماد فقط على نصوص القرآن مرجعية
وحيدة، والتصدي لأفكار المؤسسات التي تحتكر الحديث باسم الدين، وخلق مدرسة
اجتهاد جديدة في القرن الحالي.
ابتداء يمكننا القول: إن
هذه التوصيات تكاد تكون إعادة إنتاج (شكلاً ومضموناً) لتوصيات شيرلي
بيرنار في تقرير مؤسسة راند، وخصوصاً في ما يتعلق برأيها في السُّنة
وخطورة الأحاديث النبوية. ومعنى ذلك بكل بساطة: أن المؤتمر الذي نظَّمه
مركز ابن خلدون وموَّلته الولايات المتحدة، كان تطبيقاً عملياً لتوصيات
تقرير راند عن الإسلام المدني الديمقراطي. ومما يلفت النظر بشدة: أن هذا
المؤتمر لم يقنع بإصدار هذه التوصيات المثيرة للجدل الشديد، ولكنه خطا
خطوة أبعد لها دلالة مهمة؛ حين اعتبر بيان المؤتمر الحاضرين فيه نواةً
أساسيةً لحركة جديدة تسمى الإسلاميون الديمقراطيون في العالمين (العربي
والإسلامي)، وتجري دعوتهم بصفتهم الشخصية مرتين في العام لمتابعة التوصيات
الختامية للمؤتمر. ومعنى ذلك أن توصيات التقرير الذي نشرته مؤسسة راند
الأمريكية التي تمثل العقل الإستراتيجي الأمريكي لشيرلي بيرنار عام 2003م
جرى تطبيق توصياته باسم الإسلاميين الديمقراطيين كما أوصت بذلك شيرلي
بيرنار؛ حين دعت لتوحيد صفوف الإسلاميين الحداثيين، بل وبعض الإسلاميين
التقليدين، الذين يوافقون على تحديث الدين الإسلامي بناءً على الرؤية
الأمريكية[8].
جمال البنا (دينمو) العمل في مركز ابن خلدون:
إن مما يسترعي الانتباه
أن الأستاذ السيد ياسين يذكر في هذا المقال أن سعد الدين إبراهيم وصف جمال
البنا في المؤتمر بأنه (دينمو العمل)، وحق هذا؛ فقد وصفتُ الرجل أيضاً في
كتابي (الإسلام الليبرالي) بأنه (المهندس الفكري للمشروع الأمريكي في هدم
الإسلام).
وللرجل طبعاً أعماله
المتعددة في هذا الاتجاه، ولكن ما يهمنا بعد إدراكنا لعلاقته المباشرة
والعميقة بالمخطط الأمريكي هو إبراز جهوده المتواصلة في الهجوم على
السُّنة النبوية.
ففي أواخر التسعينيات
أصدر جمال البنا كتابه (السُّنة) الذي حشد فيه كل شبهات المنكرين للسُّنة
في القرن العشرين وبعد أن كرر هجومه في عشرات الكتب التي أصدرها بعد ذلك،
خصص كتاباً غاية في التطاول على الإسلام هو (تجريد البخاري ومسلم من
الأحاديث التي لا تلزم)، ولماذا لا يفعل هذا إذا كانت الدعاية الأمريكية
له جعلته من خلال القنوات الإعلامية التابعة لها (قنوات فضائية، صحف،
مواقع إنترنت) أشهرَ مفكر في الواقع المعاصر رغم أنف الجميع ؟
إن ما أريد الإشارة إليه
هنا هو فضح أكذوبة الهجوم على الأحاديث النبوية والدفاع عن القرآن؛
فهؤلاء لا علاقة لهم إلا بالرعاية الأمريكية في هجومهم على الإسلام؛ فكثير
من الأحاديث النبوية التي هاجمها جمال البنا في كتابه تتطابق تماماً مع
بعض آيات القرآن الكريم أو مع المعنى العام لها، مثال ذلك: إنكاره لحديث:
((من يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدَّم من ذنبه))[9] حيث
قارن هذا بقوله - تعالى -: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ
شَهْرٍ)[القدر: 3]، وحديث: "يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة،
ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاءً وسمعةً، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً
واحداً"[10].
ورفضُه هنا مبعثه أن
الحديث يذكر صفةً للذات الإلهية على حد قوله؛ مع أن الآية القرآنية تقول:
(يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ)[القلم: 42].
ومن هذا المعين الأمريكي
يدفع بهذا أو ذاك ليردد مقولات هذا التراث العفن نفسها في الهجوم على
السُّنة النبوية، وهو الذي جرى الرد عليه مراراًً وتكراراً من العلماء
والمفكرين.
التعويق الإعلامي للعلماء والمفكرين:
يحدث كل هذا الإفك ويجد
الترحيب والرعاية من كثير من القنوات الإعلامية بدعوتي (حرية الفكر،
والاجتهاد)؛ بينما يجري تعويق العلماء والمفكرين عن الرد عليهم: إما
بإعطاء دورهم لمن جرى استمالتهم من رجال منسوبين للدين، أو عدم إعطائهم
المساحة الكافية للرد والتشويش عليهم لإظهار هؤلاء المتطاولين على الإسلام
بصورة المنتصرين.
أمثلة وتجارب من الواقع:
وأذكر في هذا الصدد مثالين من الواقع:
الأول:
أن برنامجاً شهيراً في إحدى القنوات غير المشفرة استضاف مستشاراً سابقاً
اشتُهِر أمره في الطعن على صحيح البخاري وأعطته القناة فرصة كاملة في ذلك؛
ولكن الأخطر من هذا أنها استضافت للرد عليه أحد هؤلاء الذين جرت
استمالتهم من المنسوبين للدين فكان موقفه هو التأكيد على آراء ذلك الطاعن،
بل ربما المزايدة عليها أيضاً.
والثاني:
هو أن إحدى القنوات المسؤولة جداً اتصلت بكاتب هذه السطور لمناظرة أحد
أهم هؤلاء المشاهير في التطاول على السُّنة النبوية فلما أبلغوه بشخصي -
وكانت بيني وبينه مناظرة سابقة - رفض حضور المناظرة فأتوا بآخر من هؤلاء
أيضاً فرفض الحضور - مثل سابقه - عندما أبلغوه بشخصي، فجرى استبدالي بأحد
علماء الأزهر الشريف وإذا بهم يشوِّشون على الرجل ويضيقون عليه ويتوحدون
مع هذا المتهجم على السُّنة ضده؛ حتى أن الرجل اشتكى بعد المناظرة أنهم
"لم يعطوه الفرصة أن يقـول كلمتين على بعض".
إن مراد قولي مـن كل ما
سبق: هو التأكيد على أن التعـامل مع هـؤلاء المتطاولين على السُّنة لا يجب
أن يكون بشكل مستقل؛ وإنما في إطار مواجهة حرب فكرية شاملة تشنها
الولايات المتحدة الأمريكية على الإسلام، ولا من خلال اعتقاد أن مشكلة
هؤلاء هي الجهل بالإسلام كما يردد عادة كثير من المشايخ الذين يردُّون
عليهم؛ ولكن المشكلة في خطط مدبَّرة، وبرامج محدَّدة يعمل هؤلاء على
تنفيذها.
_____________________
[1] د. مصطفى السباعي، السُّنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، ص 344.
[2] موقع القرآنيين.
[3] شبكة محيط: 15 سبتمبر 2010م.
[4] الإسلام الديمقراطي المدني، موقع ترجمات الزيتونة ديسمبر 2004م.
[5] المرجع السابق.
[6] المرجع السابق.
[7] شبكة البصرة: الخميس 21 تشرين 2004م.
[8] المرجع السابق.
[9] أخرجه البخاري.
[10] أخرجه مسلم